ندوة نادي القصة قراءة في أشكال الكتابة عن الذات رواية ( تحت سماء بيروت) عواطف الزين

ندوة نادي القصة
قراءة في أشكال الكتابة عن الذات
رواية ( تحت سماء بيروت) عواطف الزين
(1-1)
بقلم د. زينب فرغلي
ما أصعب الإشكاليات التي يقع فيها الدرس النقدي حينما يحدد جنسا أدبيا أو يأصل له، بالاخص مع اختلاط الأنواع الأدبية. فقد شهد العالم في الآونه الأخير تغيرا كبيرا في منظومة القيم الموروثة عن عصر الحداثة ، كما شهد صعودا لقيم أخرى موغلة في الذات و الذاتية ، وقد أثرت هذه النزعة في التصور المعتاد في الأدب وقضاياه، وأدت إلى ظهور لون جديد من الكتابة المتجاوزة للقواعد، والحدود، والقوانين، واستطاعت التعبير عن التجاوزية تلك ، عبر جنس (التخييل الذاتي)، بوصفه جنسا أدبيا جاءت به ثورة ما بعد الحداثة، وأستطاع أن يتكرس كممارسة أدبية أعادة صياغة جملة من القضايا، كالعلاقة القائمة بين الذات والأخر ، والواقع والتخييل، وغير ذلك من المفاهيم التي غيبها الجموح البنيوي لسنوات طويلة، كما أنه يعد عودةً جديدةً لمؤلفٍ تم قتلَهُ وتشريدة وإقصاءه من عمله وإبداعه عبر مقولة (موت المؤلف) التي أتت بها البنيوية، مما جعل (المؤلف) يعلن عن حضوره الطاغي بسلسلة من الكتابات الأوتو بيو غرافية الدافعة بالذات إلى أقصى مداها عبر التخييل الذاتي، وغيره من الممارسات المتجاوزة للحدود الأجناسية الضيقة.
ظهر مصطلح ( التخييل الذاتي (Autofiction ( علــى يــد الكاتــب والناقــد الفرنســي (ســيرج دبروفســكي” ( Serge Doubrovsky، ولم يلبـــــث أن تلقفـــــه النقـــــاد والدارســـــون بـــــين مستحســـــن ومســتهجن، ومؤيــد ورافــض ، حين أصدر (روايته) خيـوط (Fils(سـنة ،1977 .
ويمكن رصد ثلاثة أنواع لقراءة الذات :-
النوع الأول، كاتب يتحدث عن نفسه بشكل مباشر كما في السير الذاتية للعقاد وطه حسين وخليل حسن خليل وغيرهم.
النوع الثاني ، كاتب يتخفي خلف شخصية أخري وهو يتحدث عن الذات يجعل من نفسه اخرا مثل (احزان مدينة لمحمد دياب) ، (حكايات حارتنا) لنجيب محفوظ، (الشمندورة) محمد خليل قاسم.
النوع الثالث اتخذ من فن الترجمة أو السيرة اطارا جماليا أي حلية أو حيلة ، فينشغل الكاتب بالإطار الجمالي الذي يتخذه وعاء لروايته ، فيعنى بجماليات الترجمة الذاتية من بداية وحكي وتقنيات فنية تخص الترجمة الذاتية،
كالمتشائل لإميل حبيبي ، ومحمد مستجاب في رواية (من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ) استخدم حليات السيرة وجعل منها قالبا فنيا.
فهيئة السرد هي إحدى المقولات الهامة في علم السرد الحديث لأنها تكشف عن طرائق السرد فاذا وقفنا أماما رواية عواطف الزين المعنونة (تحت سماء بيروت) وجدنا أن العنوان: وفق الدرس النقدي الجديد، يعد علامة من العلامات التي يعتمد عليها الناقد في سبر أغوار النص واستجلاء طبيعته. فقد اعتبر جيرار جينت العنوان من (النصية الموازية) paratextualite: وحددها في (العنوان، العنوان التحتي، العنوان الداخلي. المقدمات، التذييلات، التنبيهات، التصدير، الحواشي الجانبية، الحواشٍ أسفل الصفحات، الهامش في آخر العمل، العبارات التوجيهية، الصور وأنواع آخري من إشارات الملاحق والمخطوطات الذاتية والغيرية، التي تزود النص بحواشي مختلفة وأحيانا بشرح رسمي وغير رسمي) ()
وقد أفرد جيرار جينت للنصوص الموازية كتابا أسماه (العتبات 1987) يشتمل على جميع الممارسات الافتتاحية، هذه الممارسات هي التي تميز العمل الأدبي وتحوله من كتاب إلى نص، أي أن يصبح المؤلف الأدبي نسقا من العلامات الدالة.
ولهذه الأسباب فإننا نتوقف في دراسة العتبات من خلال موقعها في فضاء النص بأكمله وفي علاقتها بالنص المركزي.فالمعنى وفق منظور العتبات لا يمكن الحصول عليه من المتن فقط ، وإنما فيما أسماه جيرار جينت بالنصوص الموازية أيضا. فالعلاقة بين العتبات ومتن العمل الأدبي علاقة تضافريه وتكاملية، ومن خلال هذه العلامات يتم فك شفرات النص والعبور إلى فضاء النص الداخلي. في رواية (تحت سماء بيروت ) ل(عواطف الزين) منذ العنوان حتى نهاية غلاف الرواية تقطن العديد من المتواليات الرمزية؛ فلم تختر (عواطف الزين) العنوان عبثا وإنما عن قصدية بعينها، فهي تدرك قيمة العنوان باعتباره عتبة تحمل دلالة، الغرض منها تفعيل كل إمكانات النص وطاقاته.
فقد أتخذ ت (عواطف) عنوانا لروايتها جملة اسمية تبدأ بظرف مكان (تحت سماء بيروت ) لتثير شهية المتلقي لطرح التساؤلات حول ماذا يوجد تحت سماء بيروت؟ ليصبح ما تحت هذه السماء هو الغاية والهدف الذي يريد المتلقي الوصول إليه،
وبذلك شكل العنوان في الرواية علامة، فهو الشكل الأكثر إيجازا وإيحائية، كما مثل نقطة تأثير على المتلقي
الجاهز لاستقبال النص من خلال أفق توقعاته.
البناء الفني للرواية :
يعد النص الأدبي مادة جمالية، يشكلها الكاتب كيفما يشاء، فتتعدد وفق ذلك التشكلات اللغوية وتظهر لنا انساق سرد مختلفة،(لأن اللغة عندما تخرج عن مألوفها في الصياغة الإخبارية لتدخل دائرة الأدبية، توجه طاقتها إلى الكلمة المفردة أولا، ثم إلى التركيب ثانيا، ثم إلى السياق الذي يضم هذه وتلك.)()
وسوف نقف عند مستويين من مستويات الأداء التعبيري لتوظيف اللغة في الرواية وهما.
اللغة والسرد: سيتم من خلاله توظيف السرد في النص موضوع الدراسة
اللغة والرمز: وستتوقف فيه الباحثة عند الدلالة الرامزة في العنوان وبعض الأسماء (هناء/ فرح/ فادية/ منير/ عابد الشاكر…..) الدلالة اللغوية لشخصيات رواية
ومن خلال رصد هذين المستويين سنحاول الوقوف على الملامح الفنية للرواية من خلال توظيف اللغة وتنوع أنساق السرد.
(2-1)
اللغة والسرد: لم تستخدم الرواية غير مستوى واحد من مستويات السرد وهو مستوى: الحكي، حيث هناك راو أو سارد، يفسر، ويحلل، ويبئر-أغلب الوقت-أحداث الرواية.
و”الراوي” هو أداة فنية تُقدّم بواسطته القصة، دون أن يشير إلى ذات خاصة أو مهمة معينة، وسواء أُعلن عنه أم لم يعلن فإنه وسيلة للإدراك وللعرض، إضافة إلى كونه ذاتًا قد تؤثر على طريقة الإدراك وعلى طريقة العرض) ()
ويُبيّن جيرار جينيت وظائف الراوي ويحصرها في خمس وظائف، (هي الوظيفة السردية القائمة على الإخبار عن الحكاية والوظيفة التوجيهيّة، ووظيفة التواصل مع المروي له، والوظيفة التعبيريّة التي تُظهر مشاعر الراوي وانفعالاته، والوظيفة الأيديولوجية التي تتضمن التعليم أو التبشير أو الدعوة لمذهب أو لفكر معين)()
وقد حدد “توماشفسكي” (نمطين رئيسين للحكي: سرد موضوعي Narrative Objectif وسرد ذاتي Narrative Subjectif، ففي نظام السرد الموضوعي يكون الكاتب مطلعاَ على كل شيء، حتى الآفكار للأبطال، أما في نظام السرد الذاتي، فإننا نتتبع الحكي من خلال عيني الراوي (أو طرف مستمع) متوفرين على تفسير لكل خبر:متى وكيف عرفه الراوي (أو المستمع) نفسه)() فالراوي ينطلق من ثنائية موقعه في القصة (داخل أو خارج) وطريقة تقديمه للقصة (سرد أو عرض) ومن هنا يتعدد الرواة تبعاِ للمتغيرات المرتبطة بهم.
فالسارد خارج نطاق الحكي: هو شخصية خارجة عن الحكاية التي يرويها (فيقدم السارد عمله، وكأنه غير معني بالأحداث، ولا علاقة له بالحكاية التي يسردها، فتكون الحكاية منسوبة إلى ضمير الغائب.
السارد داخل نطاق الحكي: وهو شخصيّة رئيسة أو ثانويّة من شخصيّات القصّة، يروي الأحداث من وجهة نظره بضمير المتكلّم غالبًا.)() وبذلك يتجسد العالم القصصي وكأنه جزءً من تجربة ذاتية تُقدّم إلينا من خلاله،
والتكنيك المتبع في رواية ( تحت سماء بيروت) للكاتبة عواطف الزين ، التعددية في استخدام أنساق السرد، الرواية تبدأ بداية توثيقة بذكر تاريخ السرد لتقنع المتلقي بحقيقة ما سيروى تقول 🙁 الأحد/4تموز عام 1971 ، يقول الراوي: بيروت مدينة ساحرة على هيئة فتاة اسمها فرح …….) ص19 يوحي السرد هنا بأن الراوي خارج نطاق الحكي فتذكرني الرواية بالقصص القديمة : الشفوية أو المكتوبة فقد كانت تبدأ بعبارة (قال الراوي) كما في الف ليلة وليلة وسيرة عنترة وسيف ين ذي يزن، وقد فعل ذلك نجيب محفوظ في رواية عصر الحب 1980وبدأ بجملة (يقول الراوي) ، لتصبح الحكاية هي الغاية التي يصرح الراوي بنقلها إلى السامعين دون تدخل منه في الأحداث. ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فبعد جملة (يقول الراوي) يفاجئنا باستخدام ضمير المتكلمين (نحن) ليصبح السارد داخل الحكي وجزءا منه.
وعبارة (يقول الراوي) التي تتصدر مشهد الحكي والتي تكررت في الرواية بصيغ مختلفة حوالي ثلاثين مرة
(يقول الراوي: بيروت مدينة ساحرة) ص19
(يقول الراوي أيضا: أنه تنقل في حياته بين أكثر من مدينة )ص 20
(يطوي الراوي صفحة عصيبة من يوميات فرح في بيروت وهي تعيش تجربة الغياب لأول مرة…..) ص65
(تعرف فرح جيدا كما يقول الراوي : ما يصول ويجول في قلب أمها وعقلها، …) 69
(يقول الراوي الذي يعرفها جيدا أنها تريد أن ترى بيروت على أرض الواقع …)75
(يطل الراوي من نافذته ليقول : الحديث مع فادية لا يتوقف . وكذلك الضحك منذ اللحظة التي تدخل فيها فرح إلى البيت) ص88
(يقول الراوي: في تلك الليلة الحالمة، أصبح لدى فرح ما تتشوق فادية لسماعه) 115
(يقول الراوي : أمسى مقهى الصمدي المكان الأحب والأقرب إلى قلب فرح) ص120
وفي موضع أخر من الحكي تتغير صيغة يقول الراوي إلى يتساءل الرواي؟ لياخد الراوي مسارا أخر من مسارات الحكي وهو التبئير أو التعليق على الأحداث كما يحدث في السير الشعبية ( ترى هل وصلت إليه أخبار لقاءات فرح بمنير في ذلك المقهى البعيد؟ هل يعرف بأأن علاقتهما أصبحث أكثر عمقا وجدية يتساءل الراوي ؟ وهل يخبره منير بتلك اللقاءات وما يدور خلالها من أحاديث القلوب والعيون والشفاه ؟ رغم كل الانسجام بين الصديقين منير ويوسف، إلا أن ذلك لم يترجم إلى وقائع ملموسة تنقله من كومبارس يظهر في لقطات بعيدة إلى ممثل ناطق)123/124
ولا يكتف الراوي بالتساءل ولكن ينتقل إلى مرحلة أخرى من الاستشراف والتبئير وهي التخيل (هكذا يتخيل الراوي عندما يلاحظ أنها في كل مرة تعود من لقائه مشرقة القلب والوجة وتبدوا أكثر شغفا بالحياة) ص125
ويشارك بمشاعره في الأحداث ويتعاطف مع البطلة ( يعز على الراوي أن تحمل فرح أشياءها ودمعة في أحداقها، وتغادر البيت الذي عشقته) ص131
(يتدخل الراوي في خصوصيات فرح أكثر فأكثر ليقول : ليتك كنت أكثر صبرا، وتحملت المكوث لوقت أطول في بيت فادية)ص 132 من المتحدث هنا ؟ هل هناك راو يروي عن الراوي ؟
(يصر الراوي على مرافقة فرح في حلها وترحالها ليحكي بلسانها فيقول : إن المرحلة الأولى لوجودها في بيروت مرت بسلام) 135
(يتدخل الراوي في هذه اللحظات ليرافق فرح في أزمتها ) 156
(تقول فرح للراوي وهي في الطريق إلى فادية : كنا معا نرفع أحلامنا على كفوف انتظارنا للغد الآتير) 157 يتحول الراوي إلى مروي له
(كان الراوي يشعر بمدى ما تعانيه فرح في تللك اللحظة) 159
(يشعر الراوي بالتعب وهو يتبع فرح من مكان إلى مكان ويعيش معاناتها ويشعر بما يختلج في نفسها من مشاعر فيقول : تقرر أم الهموم كما ..) 163
: (يعود الراوي بعد غياب أذ يبدو أنه شعر بشيء ما يهدد فرح ) 202ص
يختفي الراوي من المشهد ويظل الحكي مستمرا من راوي ضمني أو من إحدى شخصيات الرواية ليعاود الظهور مرة أخرى عن قصد ووعي من الكاتبه فهي تعرف أنها غيبته قصرا .
الفصل الثاني:
(تنفرج أسارير الراوي وهو يلوح بكلتا يديه لفرح، التي تقف على شرفة سكن جديد ، حظيت به)207ص
(يتقلب الراوي على جمر القلق فيقول : كان لتلك الحادثة تأثيرها السلبي على حياتها)223 ص
(لا يكاد يغيب صوت الراوي قليلا حتى يعود من جديد ليقول : في أحد الأيام يقرع أحدهم جرس شقتها) ص 229
(يقول الراوي وهو يسجل في مفكرته تاريخ ذلك اليوم: غريبة هي الأيام التي استطاعت أن تنقل سلوى من حالة إلى أخرى) ص 237
(وكما يقول الراوي يبدو أن الأيام الجميلة تنتهي بسرعة خاطفة )ص 245
(يعاني الراوي من توتر وقلق لكنه يواكب مسيرة الصديقتين بحب وشغف يقول: كانت سلوى هي الأسرع في إيجاد عمل)249ص
(يقول الراوي: معبرا عما في قلب رفيقته أنها فوجئت بكثير من المتغيرات في بيت فادية)263ص
(يتحدث الراوي عن توقعاته فيقول: لا أحد يعرف كيف تسير شؤن الحب في بداياته؟)267ص
(كاد الراوي أن يصرخ في وجهها: عندما لمحها في صباح اليوم التالي الاثنين تبحث عن سيارة سرفيس، تقلها إلى الجريدة)285 ص
بداية الفصل الثالث (يمسح الراوي دمعته، وهو يرى فرح تائهة النظرات، مشتتة الذهن) ص 297
(يكتب الراوي في أوراقه المبعثرة من حوله ويقرأ: مضت سنتان من عمر الحرب العقيمة، )308 ص
(يقول الراوي : أنه في يوم الأحد التاسع عشر من آذار مارس من عام 1978 غادرت فرح مدينتها التي تركت تحت سمائها ملامح قلبها وروحها وكثير من الأشياء التي تحس ولا تقال)325 ص
والسؤال هنا من رصد لنا حديث الراوي؟
لنكتشف أن بالرواية مستويين من الحكي مستوى الراوي الضمني الذي يحكي الحكاية ومستوى الراوي الخارجي الذي يرصد أو ينقل الحكاية المحكية وغالبا ما يكون هذا الراوي الخارجي هو صوت الأديب الذي يبئر ويستشرف
فالراوي الضمني غير موجود في الحكي وانما يشير الراوي الخارجي إلى مقولاته ويسرد عنه ، ذكرتني الكاتبة بشهرزاد وهي تقول (بلغني أيها الملك السعيد) ، فهي تروي عن الراوي، ولكن لماذا اتبعت الكاتبة هذا الأسلوب من السرد الذي يشبه أسلوب الف ليلة وليلة حكاية داخل حكاية؟، فلم يحدث أن كتب أحدا في رواية قال الراوي الا نجيب محفوظ في روايته عصر الحب، كما اشرت سابقا، فلماذا اتبعت هذا التكنيك من السرد ؟ ربما أردت أن تحول الرواية إلى سيرة كسيرة العظماء التي يرويها التاريخ ، فقامت بصناعة سيرة واتخذت من الاطر الجمالية للسيرة إطارا لروايتها.
لقد استطاعت الكاتبة عن طريق التخييل الذاتي وتقنياته أن تنتج نصا مميزا وسردا مختلفا زاوج بين التخييلي والسيرذاتي.

قراءة في أشكال الكتابة عن الذات